من ذكرياتي مع الطالب محمد خالد ـ رحمه الله ـ
لم تكن سنة دراسية كغيرها من سنوات الدراسة حسبما بدت لي من أول يوم التقيت فيه بطلاب الصف التاسع ،
المكان هو المكان : مدرسة 14 أكتوبر للتعليم الأساسي .
والمدينة هي المدينة : مدينة غيل باوزير الغالية العزيزة .
كان شعوري بتغير جرى ويجري وهو جارٍ في كل لحظات زماني وساعاتي ، كان طلاب الفصلين يختلفون عن طلاب السنة الماضية ، إذ تنبعث منهم رائحة التواضع وتشع في وجوههم أنوار الفضيلة وتعلوهم مسحات السكينة .
هنا أدركت الفرق والخصوصية في تلك الدفعة
غير أن طلاب فصل من الفصلين تميز فيهم تميُّز لم أدرك كنه انفراده عن مثيله ، ولم أتفرس في سرّ غموضه
بدا لي منهم طالبٌ جالسٌ في الصف الأول من الفصل ، لمحته باستراق يراقب حركاتي يتابع سكناتي عن قرب
وعن عناية كأنه أعارني سمعه وبصره بل ربما قلبه .
قلت في نفسي لعله الأول في دفعته ، وكان حديثي عن أهمية اللغة العربية وأهمية دراستها والاعتناء بها ،
فخطر ببالي أن أوجه إليه سؤالاً أختبر به مستواه ، فوجهت السؤال إلى جميع الطلاب ثم عينته واخترته للإجابة
فنهض واقفاً ، نهوضاً الوقور وانتصب قائماً انتصاب الخجول ، أخذ يصول ويجول بكلمات ليجد جواب السؤال
فلم يوفق إليه ، لكن بدت منه ابتسامات توحي إليّ بهمس رقيق : أن اعذرني يا أستاذ ؛ لم يتلفظ بها ولكنني فهمتها
من لغة البسمة ، وانكسار العيون .
هنا دافعني فضولي لمعرفة اسمه فباغتّه بالسؤال : ما اسمك؟ فأجاب : محمد . أذنت له بالجلوس .
والذي شدّ انتباهي حينها أن طلاب الصف جميعاً ينظرون إليه يرتقبون منه إجابة وعندما أجلسته تبسم جماعة منهم
عرفت بعد أيام أنهم أقرب أصدقائه .
وبعد أيام أدركت أن لهذا الطالب خلقاً طيباً يجود به على أصدقائه وزملائه ، كان سريع التسامح بدهيّ العفو واسع الصدر حتى للكلمات الجارحة من زملائه ، مطبوعاً على حب الألفة مع زملائه . بل مع مدرسيه لاحظت لطافته مع مدرسيه ومحاوراته لهم في ساحات المدرسة .
غير أنني كنت صاحب النصيب الأوفر من النقاش والأسئلة في الاستراحات ( الفسح) كنت أسمع له من غير ملل
وأنصت له من غير كلل وأعطيه من وقت راحتي في ( الفسحة) وقتاً ربما أخذها كلها وهو يطوف بالأسئلة
عن اللغة العربية كان يشعر بخوف من دراسة الصف التاسع وينتابه قلق من امتحان الشهادة ، لكنني كنت أهدئ من روعه فينصرف قائلاً شكراً يا أستاذ طمأنتني .
كانت له غرائب في الصف ، اقترح أحدهم طبع مذكرة لحل الأسئلة الخاصة بالامتحانات السابقة فقلت هناك تكلفة مالية كبيرة لطباعة المذكرة فقال : على الفور أنا أطبعها على حسابي ، ضحك بعض الطلاب وتبسمت ، فقال : أنا جادّ في كلامي !!.
في سير أيام الدراسة كانت له تقطعات يغيب فيها لمرض يعاوده .
حتى جاءت ليلة ليست كالليالي ولحظة ليست كاللحظات ؛ بعد أن سلّم عليّ أحد أصدقائي ليخبرني بأنه جاء من جنازة تلميذي محمدٍ ، انتفضتْ فرائصي انتفاضة المصعوق كان صوته كالرعد صكّ أذنيّ صكاّ يبست منه شفتاي ، وما كان مني إلا أن قلت : الحمد لله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، تسمرت مكاني ، وطاف خيال محمد حولي كطيف سحاب بارد يهطل منه مطر كالبرد على جسدي، وأنا أردد :إنا لله وإنا إليه راجعون .
لم تكن ساعات ليلي حينها طبيعية بل طالت وأنا أطويها وأطويها وهي تمتدّ ثقيلة مملة كنت أرتقب الصباح .
دخلت المدرسة ؛ لم يكن هناك طابور ، إذ لم تتحمّل نفوس الطلاب طابوراً من دون محمد ، فأمر مدير المدرسة بدخول الطلاب دون طابور .
أما طلاب الصف التاسع جميعاً وطلاب فصل محمد خاصة كانوا أسارى البكاء ، وغرقى الدموع ، فما رأيت طلاباً قد حزنوا على زميل لهم كحزن زملاء محمد على زميلهم ، كان المشهد محزناً ، والبكاء يدب دبيباً حتى وصل مكاتب المدرسين .
حينها طلب المدير من بعض المدرسين بصرف طلاب الصف التاسع إلى بيوتهم ليعودوا في اليوم الثاني إلى حجرة دراسية أخرى غير التي هم فيها .
وفي اليوم الثاني كنت أجرجر كلمات الشرح جرجرةً الكليل ، لم أكمل الدرس ...
هكذا لا ترسي الذكريات قواعدها إلا لأجل عزيز ترك صدىً حفر في القلوب لحظات الودّ والإخاء والخلق الفاضل
ليبقي له مكانة لا تنسى مدى الحياة .
كما صنع ابننا وتلميذنا محمد خالد بامطرف ، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في فردوسه الأعلى مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً
اللهم آمين ، آمين .